تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 539 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 539

539 : تفسير الصفحة رقم 539 من القرآن الكريم

** يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىَ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىَ وَلَـَكِنّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرّتْكُمُ الأمَانِيّ حَتّىَ جَآءَ أَمْرُ اللّهِ وَغَرّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
يقول تعالى مخبراً عن المؤمنين المتصدقين أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة, بحسب أعمالهم كما قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم} قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط, منهم من نوره مثل الجبل, ومنهم من نوره مثل النخلة ومنهم من نوره مثل الرجل القائم, وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتّقد مرة ويطفأ مرة, ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء فدون ذلك حتى أن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه» وقال سفيان الثوري عن حصين, عن مجاهد, عن جنادة بن أبي أمية قال: إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم وسيماكم وحلالكم ونجواكم ومجالسكم, فإذا كان يوم القيامة, قيل: يافلان هذا نورك, يافلان لا نور لك, وقرأ {يسعى نورهم بين أيديهم}.
وقال الضحاك: ليس أحد إلا يعطى نوراً يوم القيامة, فإذا انتهوا إلى الصراط طفىء نور المنافقين, فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفىء نور المنافقين فقالوا: ربنا أتمم لنا نورنا, وقال الحسن: {يسعى نورهم بين أيديهم} يعني على الصراط وقد قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبو عبيد الله بن أخي ابن وهب, أخبرنا عمي عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن مسعود أنه سمع عبد الرحمن بن جبير يحدث, أنه سمع أبا الدرداء وأبا ذر يخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود, وأول من يؤذن له برفع رأسه, فأنظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم» فقال له رجل: يانبي الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح إلى أمتك ؟ فقال: أعرفهم محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم, وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم, وأعرفهم بسيماهم في وجوههم, وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم».
وقوله {وبأيمانهم} قال الضحاك أي وبأيمانهم كتبهم كما قال: {فمن أوتي كتابه بيمينه} وقوله: {بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار} أي قال لهم: بشراكم اليوم جنات أي لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار {خالدين فيه} أي ماكثين فيها أبداً {ذلك هو الفوز العظيم} وقوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم} وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال المزعجة والزلازل العظيمة, والأمور الفظيعة, وأنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن با لله ورسوله وعمل بما أمر الله به وترك ما عنه زجر. قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبدة بن سليمان, حدثنا ابن المبارك, حدثنا صفوان بن عمرو, حدثني سليم بن عامر قال: خرجنا على جنازة في باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي, فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة أيها الناس إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات, وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو هذا ـ يشير إلى القبر ـ بيت الوحدة وبيت الظلمة وبيت الدود وبيت الضيق إلا ما وسع الله, ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة, فإنكم في بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر من الله, فتبيض وجوه وتسود وجوه, ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر فيغشى الناس ظلمة شديدة, ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نوراً, ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئاً, وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير, ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نور} وهي خدعة الله التي يخدع بها المنافقين حيث قال: {يخادعون الله وهو خادعهم} فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً, فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم {بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب}
يقول سليم بن عامر: فما يزال المنافق مغتراً حتى يقسم النور ويميز الله بين المنافق والمؤمن, ثم قال: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن عثمان, حدثنا ابن حيوة, حدثنا أرطاة بن المنذر, حدثنا يوسف بن الحجاج عن أبي أمامة قال: يبعث الله ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقدر أعمالهم فيتبعهم المنافقون فيقولون {انظرونا نقتبس من نوركم} وقال العوفي والضحاك وغيرهما عن ابن عباس: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً, فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه, وكان النور دليلاً من الله إلى الجنة, فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين فقالوا حينئذ {انظرونا نقتبس من نوركم} فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون {ارجعوا وراءكم} من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا الحسن بن عرفة بن علوية القطان, حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار, حدثنا إسحاق بن بشر بن حذيفة, حدثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم ستراً منه على عباده, وأما عند الصراط فإن الله تعالى يعطي كل مؤمن نوراً وكل منافق نوراً, فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات, فقال المنافقون انظرونا نقتبس من نوركم وقال المؤمنون ربنا أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً».
وقوله تعالى: {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} قال الحسن وقتادة: هو حائط بين الجنة والنار, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو الذي قال الله تعالى: {وبينهما حجاب} وهكذا روي عن مجاهد رحمه الله وغير واحد وهو الصحيح {باطنه فيه الرحمة ـ أي الجنة وما فيها ـ وظاهره من قبله العذاب} أي النار قاله قتادة وابن زيد وغيرهما, قال ابن جرير وقد قيل إن ذلك السور سور بيت المقدس عند وادي جهنم. ثم قال: حدثنا ابن البرقي, حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن سعيد بن عطية بن قيس عن أبي العوام مؤذن بيت المقدس قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: إن السور الذي ذكره الله في القرآن {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} وهو السور الشرقي باطنه المسجد وما يليه وظاهره وادي جهنم. ثم روي عن عبادة بن الصامت وكعب الأحبار وعلي بن الحسين زين العابدين نحو ذلك, وهذا محمول منهم على أنهم أرادوا بهذا تقريب المعنى ومثالاً لذلك, لا أن هذا هو الذي أريد من القرآن هذا الجدار المعين نفسه ونفس المسجد, وما وراءه من الوادي المعروف بوادي جهنم, فإن الجنة في السموات في أعلى عليين والنار في الدركات أسفل سافلين, وقول كعب الأحبار إن الباب المذكور في القرآن هو باب الرحمة الذي هو أحد أبواب المسجد فهذا من إسرائيلياته وترهاته, وإنما المراد بذلك السور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه, فإذا استكملوا دخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وجهل وشك وحيرة.
{ينادونهم ألم نكن معكم} أي ينادي المنافقون المؤمنين أما كنا معكم في الدار الدنيا نشهد معكم الجمعات ونصلي معكم الجماعات, ونقف معكم بعرفات, ونحضر معكم الغزوات ونؤدي معكم سائر الواجبات ؟ {قالوا بلى} أي فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين: بلى قد كنتم معنا {ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني} قال بعض السلف: أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات وتربصتم أي أخرتم التوبة من وقت إلى وقت. وقال قتادة: {تربصتم} بالحق وأهله {وارتبتم} أي بالبعث بعد الموت {وغرتكم الأماني} أي قلتم سيغفر لنا وقيل غرتكم الدنيا {حتى جاء أمر الله} أي مازلتم في هذا حتى جاءكم الموت {وغركم بالله الغرور} أي الشيطان قال قتادة: كانوا على خدعة من الشيطان والله مازالوا عليها حتى قذفهم الله في النار: ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين أنكم كنتم معنا أي بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها, وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تراؤون الناس ولا تذكرون الله إلا قليلاً, قال مجاهد: كان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ويغشونهم ويعاشرونهم, وكانوا معهم أمواتاً ويعطون النور جميعاً يوم القيامة, ويطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور ويماز بينهم حينئذ.
وهذا القول من المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر الله تعالى به عنهم حيث يقول, وهو أصدق القائلين {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ. ثم قال تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} كما قال ههنا {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفرو} أي لوجاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهباً ومثله معه ليفتدي به من عذاب الله ما قبل منه. وقوله تعالى: {مأواكم النار} أي هي مصيركم وإليها منقلبكم, وقوله تعالى: {هي مولاكم} أي هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم وبئس المصير.

** أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يُحْيِـي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ
يقول تعالى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله, أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه. قال عبد الله بن المبارك: حدثنا صالح المري عن قتادة عن ابن عباس أنه قال: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} الاَية, رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن حسين المروزي عن ابن المبارك به. ثم قال هو ومسلم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال, يعني الليثي, عن عون بن عبد الله عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الاَية {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} الاَية, إلا أربع سنين, كذا رواه مسلم في آخر الكتاب, وأخرجه النسائي عند تفسير هذه الاَية عن هارون بن سعيد الأيلي عن ابن وهب به. وقد رواه ابن ماجه من حديث موسى بن يعقوب الزمعي عن أبي حازم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه مثله, فجعله من مسند ابن الزبير, لكن رواه البزار في مسنده من طريق موسى بن يعقوب عن أبي حازم عن عامر عن ابن الزبير عن ابن مسعود فذكره.
وقال سفيان الثوري عن المسعودي عن القاسم قال: ملّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا: حدثنا يارسول الله, فأنزل الله تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص} قال: ثم ملوا ملة فقالوا: حدثنا يارسول الله فأنزل الله تعالى {الله نزل أحسن الحديث} ثم ملوا ملة فقالوا: حدثنا يارسول الله, فأنزل الله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} وقال قتادة {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول ما يرفع من الناس الخشوع». وقوله تعالى: {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم} نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى, لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمناً قليلاً ونبذوه وراء ظهورهم, وأقبلوا على الاَراء المختلفة والأقوال المؤتفكة, وقلدوا الرجال في دين الله واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله, فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة ولاتلين قلوبهم بوعد ولا وعيد {وكثير منهم فاسقون} أي في الأعمال فقلوبهم فاسدة وأعمالهم باطلة كما قال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به} أي فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه وتركوا الأعمال التي أمروا بها, وارتكبوا ما نهوا عنه, ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار, حدثنا شهاب بن خراش, حدثنا حجاج بن دينار عن منصور بن المعتمر عن الربيع بن عميلة الفزاري قال: حدثنا عبد الله بن مسعود حديثاً ما سمعت أعجب إلي منه إلا شيئاً من كتاب الله أو شيئاً قاله النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم واستلذته, وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم فقالوا تعالوا ندع بني إسرائيل إلى كتابنا هذا, فمن تابعنا عليه تركناه ومن كره أن يتابعنا قتلناه, ففعلوا ذلك وكان فيهم رجل فقيه, فلما رأى مايصنعون عمد إلى ما يعرف من كتاب الله فكتبه في شيء لطيف ثم أدرجه, فجعله في قرن ثم علق ذلك القرن في عنقه, فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء إنكم أفشيتم القتل في بني إسرائيل فادعوا فلاناً فاعرضوا عليه كتابكم, فإنه إن تبعكم فسيتابعكم بقية الناس وإن أبى فاقتلوه, فدعوا فلاناً ذلك الفقيه قالوا: أتؤمن بما في كتابنا هذا, قال: وما فيه ؟ اعرضوه علي فعرضوه عليه إلى آخره, ثم قالوا: أتؤمن بما في كتابنا هذا ؟ قال: نعم آمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن فتركوه فلما مات فتشوه فوجدوه معلقاً ذلك القرن, فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب الله فقال بعضهم لبعض: ياهؤلاء ما كنا نسمع هذا أصابه فتنة, فافترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة, وخير مللهم ملة أصحاب ذي القرن» قال ابن مسعود: وإنكم أوشك بكم إن بقيتم أو بقي من بقي منكم أن تروا أموراً تنكرونها لا تستطيعون لها غيراً, فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره.
وروى أبو جعفر الطبري حدثنا ابن حميد, حدثنا جرير عن مغيرة عن أبي معشر عن إبراهيم قال: جاء عتريس بن عرقوب إلى ابن مسعود فقال: ياأبا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر, فقال عبد الله. هلك من لم يعرف قلبه معروفاً ولم ينكر قلبه منكراً. إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم اخترعوا كتاباً من بين أيديهم وأرجلهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم, وقالوا نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب, فمن آمن به تركناه, ومن كفر به قتلناه, قال فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن ثم جعل القرن بين ثندوتيه, فلما قيل له أتؤمن بهذا ؟ قال آمنت به ويومىء إلى القرن بين ثندوتيه, ومالي لا أؤمن بهذا الكتاب ؟ فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن.
وقوله تعالى: {اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الاَيات لعلكم تعقلون} فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها ويهدي الحيارى بعد ضلتها, ويفرج الكروب بعد شدتها, فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل, كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل, ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل, فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال, والمضل لمن أراد بعد الكمال, الذي هو لما يشاء فعال, وهو الحكيم العدل في جميع الفعال, اللطيف الخبير الكبير المتعال.